الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة ***
الحمد لله الواحد الأحد ذي الجلال والإكرام، المبين لعباده على لسان رسله شرائع الأحكام من واجب وحلال وحرام، وكلفهم بالوقوف عند حدودها واتباع أوامرها واجتناب نواهيها تكليفاً لا انفصال لهم عنه ولا انفصام، وأمر رسله وورثتهم من خلقه بتنفيذها بين عباده ليرتفع الظلم والفساد والهرج والعناد تنفيذاً لا يشوبه حيف في إقامة الحق بين ذوي الخصام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد قطب دائرة الكونين المؤيد بالوحي والإلهام، وعلى آله وأصحابه الذين مهدوا للدين من بعده فاستنار الحق واستقام وقاموا بالشريعة المطهرة أحسن قيام. وبعد: فيقول أفقر العبيد إلى الله الغني به عمن سواه الراجي عفوه في سره ونجواه علي بن عبد السلام التسولي أصلاً ومنشأً، الفاسي داراً وقراراً: لما كانت تحفة الحكام من أجل ما ألف في علم الوثائق والإبرام لسلامة نظمها ووجازة لفظها، ولكونها قد اجتمع فيها ما افترق في غيرها ومنّ الله علينا بتدريسها وإقرائها وإبراز خفي معانيها وذكر فروع تناسبها ونكت تقيد شواردها وتحل مقفلها، طلب مني الكثير من طلبة الوقت أن أضع لهم شرحاً عليها يشفي الغليل ويكمل المرام، ويكشف من خفي معانيها ما وراء اللثام ويحتوي على إعراب كل ألفاظها ليتدرب المبتدىء بعلم النحو الذي عليه المدار في الفهم والإفهام، وعلى بيان منطوقها ومفهوم الكلام، وعلى إبراز فرائد الفوائد وفروع تناسب المقام مبيناً فيه ما به العمل عند المتأخرين من قضاة العدل والأئمة الكرام، مصلحاً فيه ما يحتاج إلى الإصلاح من ألفاظه المخلة بالنظام، شارحاً فيه غالب وثائق الأبواب وإن أدى ذلك إلى الإطناب ليتدرب بذلك من لم يتقدم له مسيس بالفتوى من الأنام ويهتدي إلى كيفية تنزيل الفقه على وثائق الأحكام، فأجبتهم إلى ذلك بعد التوقف والإحجام، وتقديم رجل وتأخير أخرى في مدة من الأيام مستعيناً على ذلك كله بالواحد الأحد الملك العلام، مرتكباً في ذلك أبسط العبارة غير مكتف عن التصريح بالرمز والإشارة ليطابق الشرح المشروح ويهتدي إلى فهمه من تقدم له أدنى مسيس بعلم الفقه والعربية، وخلا ذهنه عن رديء الأوهام مشيراً بصورة (خ) المعجمة إلى الشيخ خليل وبصورة (ت) إلى شيخ شيوخنا سيدي محمد التاودي أحد شراح هذا الكتاب وبصورة (م) إلى الشيخ ميارة ذي العلم الجليل وبصورة (ح) المهملة إلى الإمام الحطاب، ولكون الإعراض يكفي في الإشارة لأولي الألباب لم أصرح بالانتقاد على أحد من شراح هذا الكتاب. نعم وقع بعض ذلك في صدره ليقاس عليه ما بقي من بعده، وأيضاً فإن لكل أحد منهجاً يقتضيه ومذهباً يختاره للفتوى ويصطفيه. وأقول كما قال صاحب التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. ولما منَّ الله تعالى عليَّ بالشروع فيه ولم يكن اطلع عليه أحد وهو مما نضمره ونخفيه أخبرني بعض الطلبة الطالبين للشرح المذكور الصادق في خلوص الطوية والمحبة أنه رأى في المنام أني وضعت عليها شرحاً فائقاً كبدر التمام، فزادني ذلك انتشاطاً وتثبتاً بالمقصود واغتباطاً لعلمي بصدق طويته وعدم كذبه في خبره على الدوام، وكنت ترددت أياماً في كيفية تسميته فأشار إليَّ هاتف في المنام بأن أسعيه البهجة في شرح التحفة مأخوذاً من قوله تعالى: {ذات بهجة} (النمل: 60) والله سبحانه المسؤول في بلوغ المأمول إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير وهو حسبي ونعم الوكيل. فالناظم رحمه الله: هو القاضي أبو بكر محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي، ولد رحمه الله ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة وتوفي حادي عشر شوال من عام تسعة وعشرين وثمانمائة، وقد أنشد أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن القاضي بيتاً رمز فيه لولادة الناظم ووفاته وبلده على طريق نظم الوفيات للكاتب القشتالي فقال: وقد (رقصت) غرناطة بابن عاصم *** و(سحت دموعاً) للقضاء المنزل فرمز بحروف رقصت لسنة الولادة ومجموعها بحساب الجمل ستون وسبعمائة مع ما في التعبير بالرقص من المناسبة، إذ الرقص الفرح والسرور، ورمز للوفاة بحروف سحت دموعاً ومجموعها بالحساب المذكور ثمانمائة وتسعة وعشرون مع ما في التعبير بذلك من الإشارة للموت. ومن شيوخه رحمه الله الأستاذ أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب، والأستاذ أبو عبد الله القيجاطي، وناصر السنة الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، وقاضي الجماعة الحافظ أبو عبد الله محمد بن علاق، وخالاه محمد وأحمد ولدا أبي القاسم بن جزي، والشريف أبو عبد الله محمد التلمساني، والقاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النميري، والأستاذ أبو عبد الله محمد بن علي البلنسي وغيرهم. كان رحمه الله تعالى فاضلاً متقناً لعلم الفقه والقراءات، مشاركاً في العربية والمنطق والأصول والحساب والفرائض مشاركة حسنة متقدماً في الأدب نظماً ونثراً وكتابة وشعراً إلى براعة خط وإحكام رسم وإتقان بعض الصنائع العلمية كتسفير الكتب وتنزيل الذهب وغيرهما. وله تآليف عديدة منها هذه الأرجوزة، وأخرى في الأصول سماها: مهيع الوصول في علم الأصول، وأخرى في النحو حاذى بها رجز ابن مالك، وأخرى في الفرائض، وقصيدة سماها: إيضاح المعاني في قراءة الثماني، وأخرى سماها: الأمل المرقوب في قراءة يعقوب، وغير ذلك كما في الابتهاج للشيخ أحمد بابا كان الله للجميع آمين. قال رحمه الله (بسم) جار ومجرور متعلق بمحذوف قدره بعضهم فعلاً وبعضهم مصدراً مرفوعاً على الابتداء، والتقدير على الأول بسم الله أؤلف أو أنظم، وقدر مؤخراً طلباً للاهتمام والاختصاص، وعلى الثاني تأليفي أو نظمي بسم الله ثابت أو حاصل، فحذف المبتدأ وخبره وبقي معمول المبتدأ، والباء للاستعانة أو للمصاحبة، وإنما قدر العامل هنا من مادة التأليف أو النظم لأن الذي يتلو البسملة هنا مؤلف وناظم والتالي لها في كل محل يعين العامل المحذوف. ثُمَّ إن لفظ اسم الذي هو ألف سين ميم يطلق في اللغة إطلاقاً شائعاً على ما يعم أنواع الكلمة فيصدق بلفظ زيد ولفظ قام وهل مثلاً، وفي اصطلاح النحاة على ما يقابل الحرف والفعل ويطلق أيضاً في اللغة إطلاقاً غير شائع على الذات فيصدق بذات زيد وذات عمرو، وهكذا. قال الفخر: الاسم يطلق لمعان ثلاث إلى أن قال الثاني ذات الشيء، وقال ابن عطية: يقال ذات ونفس وعين واسم بمعنى اه. فعلى الشائع مدلوله اللفظ المفرد الموضوع لمعنى الصادق بلفظ زيد ولفظ قام وهل ونحوها من الألفاظ الدالة على معنى وهو الذات في الأول والقيام في الثاني والاستفهام في الثالث، وعلى غير الشائع مدلوله الذات الصادقة بذات زيد وذات عمرو ونحوهما. فإذا قلت: رأيت اسم زيد فمعناه رأيت ذاته وعينه لا لفظه، فقولهم قد اختلف هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ مرادهم اختلف في مدلول لفظ اسم حيث استعمل في التراكيب الجزئية التي لا يراد فيها مدلوله الذي هو مطلق اللفظ على الشائع أو مطلق الذات على غيره، وإنما يراد بعض ما صدقات مدلوله في الجملة فقيل فيه إذ ذاك: إن مدلوله لفظ زيد مثلاً الذي هو على الشائع من ما صدقات مدلوله، ولفظ زيد غير المسمى الذي هو ذاته، وقيل إن مدلوله عين المسمى وهو ذات زيد مثلاً التي هي على غير الشائع من ما صدقاته وعلى الشائع هي مدلول ما صدقه وليس مدلوله لفظ زيد على هذا القول. وبالجملة فذات زيد مثلاً هي بعض مدلول ما صدقات الاسم على الأول وهي بعض ما صدقاته على الثاني لأن مدلول الاسم على الأول هو اللفظ الدال على معنى ولفظ زيد بعض ما صدق عليه ذلك اللفظ وذاته هي مدلول ما صدقه وعلى الثاني هي ما صدقه لا مدلول ما صدقه فمدلوله على الأول لفظ دال على معنى أياً كان، ومدلوله على الثاني نفس المعنى أياً كان. ودليل القول الأول قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى } ( الأعراف: 180) أي ألفاظ دالة عليه فادعوه بها} (الأعراف: 180) وقوله (صلى الله عليه وسلم): (إن لله تسعة وتسعين اسماً) أي لفظاً للقطع بأن المسمى واحد لا تعدد فيه. ودليل القول الثاني قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى } (الأعلى: 1) والتسبيح الذي هو التنزيه عن صفات المحدثات إنما هو للذات دون اللفظ، وكذا قوله تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} (يوسف: 40) وعبادتهم إنما هي للمسميات دون الأسامي. وإذا تقرر هذا علمت أن لفظ اسم في البسملة هو مقحم على الأول أو بمعنى التسمية أو من إضافة العام إلى الخاص إذ معناه بدأت مستعيناً بالله أو بتسمية الله أو بسم هو الله، وأما على الثاني فلا يؤول بشيء إذ معناه مستعيناً بمسمى الله ومسماه هو ذاته العلية أي مستعيناً بمسمى هذا اللفظ على أن الخلاف لفظي كما صرح به الشيخ زكريا وغيره فمن قال: إنه غير المسمى أراد حيث يكون الحكم مناسباً لغير المسمى كقولك: تلوت اسم زيد أي لفظه ومن قال: إنه عين المسمى أراه حيث يكون الحكم مناسباً لذلك أيضاً كقولك: رأيت اسم زيد أي ذاته، وأما تقسيم الأشعري رضي الله عنه أسماء الله تعالى إلى ثلاثة أقسام ما هو نفس المسمى أي مدلوله نفس المسمى مثل لفظ الله الدال على ذاته تعالى، وما هو غيره كالخالق والرازق ونحوهما من صفات الأفعال أي يفهم منها غيره تعالى وهو الخلق والرزق الناشئان عن قدرته بخلاف الأول إذ لا يفهم من لفظ الله سوى ذاته تعالى وما هو لا عينه ولا غيره كالعالم والقادر ونحوهما من الصفات القديمة، فليس من هذا القبيل لأنه لم يقل ذلك في لفظ الاسم، والخلاف المتقدم إنما هو في لفظ الاسم لكن قال بعضهم: إن قوله لا عينه ولا غيره لا يخلو من صعوبة وإشكال، وقد انفصل عن ذلك بعضهم بأن المراد أن تلك الصفة الحقيقية ليست غير الذات مفهوماً أي مدلولاً ولا عينها خارجاً اه. ولعله يريد أنه لا يقال أن مدلولها غير الذات ولا عين الذات، بل مدلولها الذات بصفتها والله أعلم. وهذه المسألة عويصة بسطت الكلام فيها لصعوبتها على الولدان المبتدئين. تنبيه: قال البغوي في اختصار قواعد القرافي ما نصه: قال صاحب الخصال الأندلسي: يجوز الحلف بقولك: بسم الله، وتجب به الكفارة، قال القرافي: هذه المسألة فيها جور بسبب أن الاسم ههنا إن أريد به المسمى استقام الحكم، وإن لم يرد به المسمى فقد حكى ابن السيد البطليوسي أن العلماء اختلفوا في لفظ الاسم هل هو موضوع للقدر المشترك بين الأسماء فمسماه لفظ أو وضع في اللغة للقدر المشترك بين المسميات فلا يتناول إلا مسمى ؟ قال: وهذا هو خلاف تحقيق العلماء في أن الاسم هو المسمى أولاً، وأن الخلاف إنما هو لفظ الاسم الذي هو ألف سين ميم، وأما لفظ نار وذهب فلا يصح أن يقول عاقل أن لفظ نار هو عين النار حتى تحرق فم من ينطق بهذا اللفظ، وإذا فرعنا على هذا وقلنا الاسم موضوع للقدر المشترك بين الأسماء، وأن مسماه لفظ فينبغي أن لا تلزم به كفارة إذا حلف به وأن لا يجوز الحلف به كما لو قلنا: ورزق الله فإن إضافة المحدث إلى الله لا يصيره مما يجوز الحلف به، وإن قلنا هو موضوع للقدر المشترك بين مسميات والقاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص وما يكون كذلك لا يحلف به ولا يكون قسماً إلا بنية أو عرف ناقل ولا واحد منهما ههنا فلا تجب كفارة إذا لم يتعين صرف اللفظ لجهة الله اه لفظه. قلت: تأمل قوله: فلا يصح أن يقول عاقل أن لفظ نار هو عين النار الخ. فإنه غير سديد. وصوابه: أن يقول فلا خلاف في أن مدلول لفظ نار هو عين النار لأن الخلاف إنما هو في مدلول لفظ الاسم لا في مدلول غيره إذ مدلول غيره من الألفاظ هو عين المسمى اتفاقاً. (الله): مضاف إليه وأصله إله أسقط منه الهمز ثُمَّ أبدل بأل كما قال: والاسم ذو التقديس هو الله *** على الأصح أصله إله أسقط منه الهمز ثُمَّ أبدلا *** بأل التعريف لذاك جعلا وهل مشتق أو جامد؟ فيه أقوال ليس هذا محلها ولا بأس بالإشارة إلى بعضها فقيل: هو مشتق من التأله وهو التنسك والتعبد يقال إله آلهة أي عبد عبادة، وقيل من الإله وهو الاعتماد يقال: ألهت إلى فلان أي فزعت إليه واعتمدت عليه، ومعناه: أن الخلق يفزعون ويتضرعون إليه في الحوادث والحوائج فهو يألههم أي يجيرهم فسمي إلهاً. وقيل: هو من ألهت في الشيء إذا تحيرت فيه فلم تهتد إليه ومعناه: أن العقول تتحير في كنه صفته وعظمته والإحاطة بكيفيته فهو إله كما يقال للمكتوب كتاب وللمحسوب حساب. وقال المبرد: هو من قول العرب ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فكأن الخلق يسكنون ويطمئنون بذكره، وقيل: أصله من الوله وهو ذهاب العقل لفقدان من يعز عليك، وكأنه سمي بذلك لأن القلوب تتوله لمحبته وتطرب وتشتاق عند ذكره، وقيل: معناه المحتجب لأن العرب إذا عرفت شيئاً ثُمَّ حجب عن أبصارها سمته إلهاً تقول: لاهت العروس تلوه لوهاً إذا احتجبت، ف الله تعالى هو الظاهر بالربوبية بالدلائل والأعلام والمحتجب من جهة الكيفية عن الأوهام. حكى هذه الأقوال الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه المسمى: غنية الطالب نفعنا الله به. (الرحمن الرحيم): نعتان لله، وقيل الرحمن بدل والرحيم نعت للرحمن والرحمن المنعم بجلائل النعم والرحيم المنعم بدقائقها، وقدم الأول وهو الله لدلالته على الذات، ثُمَّ الثاني لاختصاصه به ولأنه أبلغ من الثالث، فقدم عليه ليكون كالتتمة والرديف، ولأن الثالث لا يختص به تعالى بدليل قوله: بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة: 128): (الحمد لله): مبتدأ وخبر أي الصفات الجميلة كلها واجبة لله، ومعنى، وجوبها أنه لا يتصور في العقل عدم وصفه بها، والجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى إذ المراد إنشاء الثناء بمضمونها أي أنشىء وصفه تعالى بكل جميل، وأتى بالحمد بعد البسملة اقتداء بالكتاب العزيز وامتثالاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) أي مقطوع البركة. كما ورد عنه عليه السلام أنه قال: (كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر) أي ذاهب البركة، فحمل الناظم رحمه الله حديث البسملة على الابتداء الحقيقي بحيث لا يسبقه شيء، وحديث الحمدلة على الابتداء الإضافي القريب منه بأن يذكر الحمد عقب البسملة متصلاً بها كما يدل عليه القرآن فهو مبين لكيفية العمل بالحديثين، وهذا أحد الأجوبة عما أوردوه من أن الابتداء بأحدهما يفوت الابتداء بالآخر، ولنقتصر عليه لكونه أحسنها. ثُمَّ إن الحمد لغة هو الوصف بالجميل على الجميل على جهة التعظيم والتبجيل، فالمراد بالوصف الذكر باللسان فقط، وخرج بالجميل الوصف بالقبيح فليس حمداً بل ذماً وبقوله: على جهة التعظيم الخ، الوصف بالجميل تهكماً نحو: ذق إنك أنت العزيز الكريم} ( الدخان: 49) وقيل: لا حاجة لزيادة هذا القيد بل هو مستغنى عنه بقوله: بالجميل على الجميل وهو الظاهر لأنه في الآية الكريمة وصفه بالجميل وهو غير متصف به في الحقيقة بل مجازاً باعتبار ما كان عليه، والمجاز غير محترز عنه في الحدود بل إنما يحترز فيها عما يشارك المحدود في الإطلاق الحقيقي. وله أركان خمسة: الصيغة والحامد والمحمود وهذه الثلاثة يتضمنها لفظ الوصف وهو لا يكون إلا باللسان، والرابع: المحمود به وهو صفة كمال يدرك العقل السليم حسنها، والمراد كونه جميلاً في الواقع أو عند الحامد أو المحمود بزعم الحامد، والخامس: المحمود عليه وهو ما يقع الوصف الجميل بإزائه ومقابلته فهو الباعث على الحمد، وهذان مصرح بهما في التعريف فلفظ الحمد في كلام الناظم يتضمن الصيغة أي اللفظ الذي يؤدى به الوصف ويتضمن الحامد أي الواصف ويتضمن أيضاً المحمود به، إذ كل واصف لا بد له من لفظ بصفة يصف بها غيره، وقوله: (لله) هو المحمود، فهذه أربعة، وأما المحمود عليه وهو الباعث على الحمد فقد يستفاد من قوله الذي يقضي الخ أي فكونه يقضي على غيره ولا يقضى عليه هو صفة جميلة في غاية الكمال، وذلك هو الباعث على وصفه بكل جميل فكأنه قال: الوصف بكل جميل من قدرة وعلم وغيرهما ثابت لله، والباعث على وصفي له بذلك هو كونه يقضي ولا يقضى عليه، وأيضاً فإن المحمود به والمحمود عليه قد يتحدان معنى ويفترقان بالاعتبار كما لو قلت: أحمده تعالى بالصفات الجميلة من قدرة ونحوها لكونه متصفاً بها فالقدرة مثلاً من حيث الوصف بها محمود بها ومن حيث إنها باعثة على الحمد محمود عليها فلا شك أن الحمد في النظم متضمن للأركان الخمسة. والحمد والمدح مترادفان كانا في مقابلة نعمة أم لا. كما للزمخشري في فائقه خلافاً للرازي حيث فرق بين الحمد والمدح بأن المدح أعم من الحمد لأنه يحصل للعاقل وغيره قائلاً: ألا ترى أنه يمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالته فيقال: ما أحسنه وما أصفاه، والحمد لا يكون إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك اه. وعليه فيقيد المحمود عليه بالاختياري وبكونه في مقابلة نعمة ليخرج المدح، لكن يلزم على التقييد به خروج الثناء على الصفات القديمة وأنه لا يكون حمداً بل مدحاً فقط وليس كذلك، وما أجيب به عن خروج الصفات القديمة من تعريف الحمد بناء على ذلك التقييد من أنها لما كانت مبدأ للأفعال الاختيارية كان الحمد عليها حمد على تلك الأفعال الاختيارية تمحل غير سديد، فلا يعول عليه، والصواب ما في الفائق من ترادفهما. قاله الشيخ البناني في شرح السلم. وأما الحمد عرفاً أي: شرعاً فهو فعل ينبىء عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً وهو مساوٍ للشكر لغة وبينهما وبين الحمد لغة عموم وخصوص من وجه فعمومهما باعتبار المورد لأنهما يكونان باللسان وبغيره من الأركان وعمومه هو باعتبار المتعلق لأنه يكون في مقابلة نعمة وغيرها فيجتمعان فيما إذا كان الوصف باللسان في مقابلة نعمة، وينفردان عنه فيما إذا كانا بغير اللسان في مقابلة نعمة وينفرد هو عنهما فيما إذا كان باللسان لا في مقابلة نعمة. وأما الشكر عرفاً؛ فهو صرف العبد جميع ما نعم الله به عليه من سمع وغيره إلى ما خلق لأجله فهو أخص مطلقاً من كل واحد من الثلاثة قبله لتقييده بمنعم مخصوص وهو الله سبحانه حيث قيل في حده: جميع ما أنعم الله به عليه، ولم يقل أنعم به عليه ولتقييده أيضاً بنعمة واصلة إلى عبده الشاكر، ولشموله لجميع الجوارح بخلاف الحمدين قبله والشكر لغة فلم تقيد النعمة في ذلك بمنعم مخصوص ولا بكونها واصلة إلى الحامد أو الشاكر، بل وصلت إليه وإلى غيره، ولا يكون ذلك بجميع الجوارح كما لا يخفى، وهذا الشكر هو الشكر المأمور به شرعاً المعبر عنه بالتقوى والاستقامة الذي أخبر عنه تعالى بقوله: وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) وقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} (ص: 24) فلا يبلغ العبد حقيقة الشكر شرعاً إلا بكمال التقوى والاستقامة الظاهرة والباطنة أما المخلط في أحواله فلم يؤد ما وجب عليه من الشكر بتمامه نعم الطاعة الصادرة منه هي بعض ما وجب عليه من الشكر، ولما لم يكن المخلط مؤدياً ما وجب عليه وكان الكثير من الناس مخلطاً قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} الخ. إذ المراد بصرف الجميع أن لا يخرج العبد عن طاعة مولاه بأن تسلم جوارحه كلها من مخالفة أمره ونهيه في جميع الأوقات فلا يكون شاكراً لنعم الله تعالى شكراً حقيقياً إلا بصرف الجميع، والعبد لا يخلو عن نعم الله طرفة عين، وعن ذلك أفصح الجنيد رضي الله عنه بقوله: الشكر أن لا يعصى الله بنعمه، أي جوارحه لأنها نعمة من الله عليه قال هذه القولة في صباه. وبأدنى تأمل يعلم أن النسب ست إذ بين كل واحد من الثلاثة والشكر عرفاً العموم والخصوص بإطلاق، فهذه ثلاث نسب، وبين الحمد لغة والحمد عرفاً والشكر لغة العموم والخصوص من وجه وبين الحمد عرفاً والشكر لغة الترادف، فهذه ثلاثة أخر وقد نظم ذلك الشيخ (عج) رحمه الله بقوله: إذا نسبا للحمد والشكر رمتها *** بوجه له عقل اللبيب يؤالف فشكر لدى عرف أخص جميعها *** وفي لغة للحمد عرفاً يرادف عموم لوجه في سوى ذين نسبة *** فذي نسب ست لمن هو عارف وأل في الحمد للاستغراق وهي التي يصلح في موضعها كل نحو: إن الإنسان لفي خسر} ( العصر: 2) وذلك لأن الحمد إما قديم وهو حمد الله تعالى لنفسه أو لمن شاء من خلقه، أو حادث وهو حمد العباد لربهم سبحانه أو لبعضهم بعضاً، فالقديم صفته ووصفه والحادث خلقه وملكه فالحمد كله له، وقيل للجنس لأن جنس الحمد إذا ثبت لله ثبت له جميع أفراده فمؤداهما واحد، وقيل للعهد لأن الله سبحانه لما علم عجز خلقه عما يستحقه من الحمد حمد نفسه بنفسه في أزله قبل وجود خلقه ثُمَّ لما أوجدهم أمرهم أن يحمدوه بذلك. ولام لله للاستحقاق أي جميع المحامد مستحقة لله تعالى، ولا يصح كونها للملك لأن من أقسام الحمد حمد الله تعالى لنفسه أو لمن شاء من خلقه في أزله كقوله: نعم العبد ونحوه، وحمده لنفسه أو لخلقه بكلامه وكلامه قديم، والقديم لا يصح أن يملك فتعين كونها للاستحقاق أي يستحق الوصف بكل جميل لكونه واجباً له لا يتصور في العقل عدمه. واسم الجلالة علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد وهو أشهر أسمائه تعالى، قيل: إنه اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب إذا وجد شرطه وهو التقوى، ولذا قبض الله تعالى عنه الألسن فلم يتسم به أحد قال تعالى: {هل تعلم له سمياً} (مريم: 56) أي هل تعلم أحداً من المخلوقات سمي الله؟ والاستفهام بمعنى النفي أي لم يتسم به غيره وهو أعرف المعارف قاله سيبويه. (الذي) نعت لله (يَقضي) بفتح الياء صلته والرابط ضمير يعود على الله (ولا يُقضى) بضم الياء مبنياً للمفعول (عليه) يتعلق به، والجملة معطوفة على الصلة والمعطوف على الصلة صلة أيضاً، ومعناه يحكم ولا يحكم عليه أي وكل قاض وحاكم سواه تعالى مقضي عليه من مولاه وممن ولاه فيقال له: ما أحقك أن تستشعر ذلك وتستحضر أنك مسؤول عن كل حكم حكمت به هنالك. وفي البيت براعة الاستهلال وهي أن يأتي المتكلم في أول كلامه بما يشعر بمقصوده، فإنه لما كان قصده أن يتكلم في أحكام القضاء وصف الله سبحانه بأنه يقضي ولا يقضى عليه. (جل): فعل ماض بمعنى عظيم (شأناً): تمييز محول عن الفاعل كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شيباً} (مريم: 4) أي عظم شأنه والشأن الأمر والحال قاله الجوهري. (وعلا): فعل ماض أيضاً معطوف على جل وتمييزه محذوف أي قدراً أي جل شأنه وعلا قدره، ويحتمل أن يكون مصدراً من قولهم: علا في المكارم من باب تعب علاء بفتح العين ومد اللام كما في المصباح قصره ضرورة فيكون معطوفاً على قوله شأناً أي عظم شأناً وعلاء ولا يصح أن يكون اسم مصدر لأن اسم المصدر هو ما كان لغير الثلاثي بوزن ما للثلاثي كأعطى عطاء واغتسل غسلاً، فاسم المصدر هو عطاء وغسل والمصدر إعطاء واغتسال فيقتضي أن علاء بمعنى إعلاء كما أن عطاء بمعنى إعطاء وليس كذلك لأن المعنى يأباه. (ثُمَّ الصلاة) من الله تعالى أي الرحمة منه إذ الصلاة لغة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن الآدميين دعاء بخير، ولكن لما كان في التعبير عن الرحمة بالصلاة من التعظيم ما ليس في لفظ الرحمة قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} (الأحزاب: 65) الآية. فالمراد أن يطلب العبد من الله تعالى زيادة التكريم والإنعام والتعظيم لنبيه عليه السلام، وإلا فأصل الرحمة حاصل له عليه السلام فلا يطلب تحصيله ونفعها عائد على المصلي لخبر: (من صلّى عليَّ مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً) فالصلاة عليه من أجلّ الأذكار وأعظمها ثواباً. (بدوام): يتعلق بمحذوف حال من الصلاة أي مؤقتة بدوام (الأبد): أي الدهر وهو حركة الفلك. (على الرسول): خبر عن الصلاة (المصطفى): نعت للرسول (محمد): بدل والجملة معطوفة بثم على جملة الحمد قبلها. والرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والمصطفى مشتق من الصفو وهو الخالص من الكدر والشوائب كلها وطاؤه مبدلة من تاء وكلاهما مقرون بأل علم بالغلبة على نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) فإذا أطلقا لا ينصرفان لغيره من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذه الجملة خبر في اللفظ ومعناه الطلب فكأنه قال: اللهم صلِّ على الرسول الخ.. ثُمَّ لا يتوهم المصلي على النبي عليه الصلاة والسلام أن صلاتنا عليه شفاعة منا له عند الله تعالى في زيادة رفعته وعلو درجته فإن مثلنا لا يشفع لعظيم القدر عند ربه، بل هو عليه الصلاة والسلام مرفوع الدرجة عند ربه في غاية التكرمة والإنعام وعلو القدر، ولكن لما أحسن عليه الصلاة والسلام إلينا بهدايته إيانا إحساناً لم يحسنه إلينا أحد من المخلوقات أمرنا سبحانه بمكافأته بالصلاة عليه أي بأن تطلب من الله سبحانه أن يصلي عليه لتكون صلاته عليه مكافأة له منا وإقراراً برسالته ونبوته وتصديقاً به، وبما جاء به من وحدانية الله سبحانه. (وآله) أقاربه المؤمنون من بني هاشم. إذ هو عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسمه شيبة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان. قال ابن الحاجب: وبنو هاشم آل، وما فوق غالب غير آل وفيما بينهما قولان اه. وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (آل محمد كل تقي) وهل أصله أهل قلبت الهاء همزة ثُمَّ قلبت الهمزة ألفاً واقتصر عليه صاحب الكشاف أو أصله أول وهو رأي الكسائي، ورجحه بعضهم وهو صريح في أنه جمع لا واحد له من لفظه وتظهر ثمرة الخلاف في التصغير على أهيل أو أويل، وكلاهما مسموع ولا يضاف إلا لذي شرف فلا يقال آل الحجام، وأما آل فرعون فله شرف دنيوي وهو عطف على محمد إذ تجوز الصلاة على غير الأنبياء تبعاً واتفاقاً وفي جوازها استقلالاً وكراهتها ومنعها خلاف، وعلى الجواز فإنما يقصد بها الدعاء لأنها بمعنى التعظيم خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كخصوص عز وجل بالله تعالى، فلا يقال محمد عز وجل وإن كان (صلى الله عليه وسلم) عزيزاً جليلاً، وكذا السلام هو خاص بالأنبياء فلا يقال أبو بكر عليه السلام. (والفئة) الجماعة (المتبعة) له (صلى الله عليه وسلم) فهو بكسر الباء الموحدة فيشمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين (في كل ما) أي حكم (قد سنه) عليه السلام أي: جعله طريقة في الدين (وشرعه) عطف تفسير عليه والمجرور يتعلق بقوله المتبعة. (وبعد): ظرف زمان كثيراً ومكان قليلاً تقول في الزمان جاء زيد بعد عمرو وفي المكان دار زيد بعد دار عمرو، وتصح هنا للزمان باعتبار الرقم وهي من الظروف اللازمة للإضافة فإذا قطعت عنها لفظاً ونوي معنى المضاف إليه بنيت كما هنا لشبهها بالحرف في الافتقار لما بعده وبنيت على حركة لتعذر السكون، وكانت ضمة لأنها حركة لا تكون لها في حالة الإعراب لأنها إذ ذاك إما منصوبة على الظرفية أو مجرورة بمن، وهي كلمة تستعمل في الكلام الفصيح لقطع ما قبلها عما بعدها. قال الفراء: معناها دع ما كنا فيه وخذ غيره، ودخلت الفاء بعدها إما على توهم وجود ما قبلها لأن الشيء إذا كثر الإتيان به وترك توهم وجوده وقد كثر في أما مصاحبتها لبعد، فإذا تركت توهم أنها موجودة، وأما على تقديرها في الكلام والواو نيابة عنها. ومعنى أما المتوهمة أو المقدرة مهما يكن من شيء بعد الحمد والصلاة فالقصد الخ. فوقعت أما موقع اسم مبتدأ لأن مهما مبتدأ والاسمية لازمة للمبتدأ، ويكن شرط. والفاء: لازمة له غالباً فحين تضمنت أما معنى الابتداء، والشرط لزمت الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة قاله السعد. وقال الدماميني: بعد: ظرف مقطوع عن الإضافة مبني على الضم معمول لقول محذوف تقديره: وأقول بعدما تقدم والمقول محذوف أي وأقول بعد ذلك تنبه. (فالقصد): أي المقصود فأطلق المصدر وأراد به المفعول (بهذا) النظم (الرجز) وهو أحد أبحر الشعر الخمسة عشر ووزنه مستفعلن ست مرات (تقرير) تبيين (الأحكام) خبر عن قوله: فالقصد والمجرور يتعلق به، ويقرأ الأحكام بنقل حركة الهمزة للام للوزن وهو جمع حكم، والمراد به الفقه المتقرر في الكتب المعتمدة كالمدونة وغيرها ليفصل به بين الخصوم (بلفظ): يتعلق بتقرير (موجز): نعت له أي قليل الحروف كثير المعاني. (آثرت): فعل ماض بمعنى قدمت واخترت قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم} (الحشر: 9) أي يقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى أن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم (فيه): أي في هذا الرجز يتعلق بآثرت (الميل): الجنوح والركون مفعول بآثرت (للتبيين): مصدر بين إذا وضح يتعلق بالميل (وصنته): حفظته (جهدي): بضم الجيم مفعول به على حذف مضاف أي غاية جهدي أي طاقتي ووسعي، والجملة معطوفة على جملة آثرت (من التضمين): يتعلق بقوله صنته والتضمين توقف معنى البيت على البيت الذي بعده لكونه خبراً أو جواب شرط أو استثناء، ونحو ذلك مما لا يتم معنى الأول إلا بالثاني وهو عند العروضيين من عيوب الشعر، وفيه يقول الخزرجي: وتضمينها أحواج معنى لذا وذا. الخ، قيل: وفيه تعريض بابن الحاج معاصر ابن رشد فإن له نظماً في القضاء مشتملاً على ألف بيت سماه الياقوتة ووقع فيه التضمين كثيراً منه قوله في رجوع الشاهد عن شهادته: وإن يك الرجوع بعد الحكم لم *** يجز ويغرم امتثالاً للحكم جميع ما أتلف بالشهاده *** فصِّل وفي بدءٍ وفي إعادة يلزم من يقضي بأن يسعف من *** كلفه الكتب لحكام الزمن بما به قضى وما قد ثبتا *** والعمل اليوم وما إن مقتا على قبول كتب القضاة *** من غير إشهاد لها ويأتي منع القبول مع ما عليه *** عملنا وقصدنا إليه فانظر هذه الأبيات فإن كل واحد منها لا يتم معناه إلا بالذي بعده، وهو كثير في ذلك النظم ولكن ذلك مغتفر بالنسبة لما أفاده وجمعه كما اعتذر عن ذلك في خطبته حيث قال: وقد نظمت بعض أحكام القضا *** مبتغياً أجراً ونيلاً للرضا مستعملاً ما شذ من زحاف *** وبعض ما قد عيب في القوافي وذاك مغفور لدى من أنصفا *** في جنب ما جئت به معرفا مغلباً تحسيني المعنى على *** تحسيني اللفظ الذي عنه انجلا الخ رحمه الله ونفعنا به وبعلومه. (وجئت): أي أتيت (في بعض من المسائل) لا في كلها (بالخلف) أي الخلاف والمجروران يتعلقان بقوله جئت (رعياً) حال أي مراعاة (لاشتهار القائل) بذلك القول يتعلق بقوله رعياً، وفهم من قوله في بعض: إن الكثير من المسائل لا يأتي بها بالخلاف، وإنما يقتصر فيه على قول واحد إما لشهرته أو لجريان العمل به، وأنه إنما يأتي بالخلاف في بعضها لغرض وهو كون القائل بذلك مشهوراً بالعلم والتحقيق فلا ينبغي إهمال قوله هذا إذا كان مساوياً للآخر في المشهورية، بل وإن كان مخالفاً للمشهور أو المعمول به فالأول مع اتحاد القائل كقوله: ومن لطالب بحق شهدا *** ولم يحقق عند ذاك العددا فما لك عنه به قولان الخ.. وكقوله في الجوائح: والقصب الحلو به قولان *** كورق التوت هما سيان ومع اختلافه كقوله في البيوع: والخلف في الخفي منه والحلف والثاني كقوله في اليمين: وفي سوى المشهور يحلف الأب *** عن ابنه وحلف الابن مذهب وكقوله: والبيع مع براءة إن نصت *** على الأصح بالرقيق اختصت وبعضهم فيه الجواز أطلقا الخ.. والثالث كقوله في الضمان: وقيل إن لم يلق من يضمنه *** للخصم لازمه ولا يسجنه وأشهب بضامن الوجه قضى *** عليه حتماً وبقوله القضا وتارة يكتفي بمجرد التصدير بقول ثُمَّ يحكي غيره بقيل كقوله: والمدعي من قوله مجرد *** من أصل أو عرف بصدق يشهد إلى أن قال: وقيل من يقول قد كان ادعا. الخ... وهكذا: وهذا معنى كلامه رحمه الله ولا يعني بذلك مراعاة الخلاف الذي هو عبارة كما لابن عرفة عن إعمال دليل الخصم في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر، فالضمير في مدلوله يعود على الدليل، والضمير في نقيضه يعود على المدلول الذي هو أقرب مذكور مثاله إعمال مالك رحمه الله دليل خصمه القائل بعدم فسخ صريح الشغار في لازم مدلوله ومدلوله عدم فسخه ولازمه ثبوت الإرث بين الزوجين، وهذا المدلول وهو عدم الفسخ أعمل في نقيضه وهو الفسخ دليل آخر وهو دليل فسخه اه. وحاصله؛ أن الدليل هو الحديث أو القياس والمدلول هو الفسخ أو عدمه، فمالك استدل لفسخه بنص حديث أو قياس، وأبو حنيفة استدل بعدم فسخه بنص حديث أو قياس، فأعمل مالك رحمه الله دليله في الفسخ في الحياة، وأعمل دليل خصمه في لازم مدلوله فقال بتوارثهما، ويكون الفسخ طلاقاً مع أن قياس دليله هو عدم توارثهما وعدم كون الفسخ بطلاق، إذ عدم صحة النكاح تستلزم عدم الإرث، وعدم الطلاق، وهذا كما يقال في البيع وغيره يفسخ العقد قبل الفوات ويمضي بعده، ومثاله أيضاً: إن الإمام يقول بفساد إنكاح المرأة نفسها مستدلاً بقوله تعالى: {ولا تعضلوهن} (النساء: 19) والخطاب للأولياء فدل ذلك على أن المرأة لا تنكح نفسها وبقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها أي أوليائها فنكاحها باطل) ثلاثاً فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها الخ. وقال أبو حنيفة: يجوز إنكاحها نفسها قياساً على البيع فأعمل مالك دليله في الحياة ودليل خصمه في لازم مدلوله بعد الممات، فأوجب توارثهما، وكون الفسخ بطلاق ولأن النبي عليه السلام قال: (فالمهر لها بما أصاب منها) بعد أن حكم على نكاحها بالبطلان، فدل ذلك على أن العقد الباطل يحكم له بحكم الصحيح بعد الفوات، وإلا فمقتضى القياس أن الفسخ بغير طلاق وأنه لا مهر لها لأنها زانية وهي لا مهر لها، وذلك كله راجع إلى تقديم الاستحسان على القياس. انظر ابن عرفة في فصل الصداق. والمعيار أواخر المعاوضات، فقد نقل عن القباب وغيره ما يشفي الغليل قال: والاستحسان معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه اه. وانظر ما بنى عليه مالك مذهبه في باب القسمة من هذا الشرح عند قوله: في غير ما من الطعام الممتنع. فيه تفاضل الخ. فإن من جملة ما بنى عليه مذهبه مراعاة الخلاف فتارة يراعيه وتارة لا يراعيه. تنبيه: إنما قلنا لا يُداعى الناظم مسألة مراعاة الخلاف الذي هو إعمال دليل الخصم الخ لأن ذلك من دأب المجتهدين الناظرين في الأدلة، فحيث ترجح عندهم دليل الخصم في لازم مدلوله أعملوه وحيث لم يترجح أهملوه، والناظم إنما هو ناظم لكلام الفقهاء المتقدمين فهو وإن ذكر حكماً وجهه عند من قال به مراعاة للخلاف لكن لا يذكر فيه خلافاً، بل يجزم بالحكم الذي جزم به المجتهد من غير ذكر خلاف أصلاً كقوله: ففسخ فاسد بلا وفاق *** بطلقة تعد في الطلاق وإن يمت قبل وقوع الفسخ *** في ذا فما لإرثه من نسخ... الخ (فضمنه): بكسر الضاد بمعنى المضمون كالذبح بمعنى المذبوح وهو مبتدأ خبره ( المفيد) أي مفيد الحكام لابن هشام (والمقرب) لابن أبي زمنين بفتح الزاي والميم وكسر النون (والمقصد المحمود) لابن القاسم الجزيري (والمنتخب) لابن أبي زمنين أيضاً ومعناه أن هذا النظم تضمن أي اشتمل على فوائد ونفائس من هذه الكتب، ولا يعني أن نظمه هذا اشتمل على جميع ما فيها بل ولا على جله، ولعله إنما خص هذه الكتب بالذكر لتتم له التورية بأن كتابه هذا مفيد مقرب محمود منتخب، وإلاَّ فكثيراً ما يحاذي عبارة ابن سلمون فلو قيل إنه تضمنه ما بعد. (نظمته) أي: جمعته من قولهم: نظمت العقد إذا جمعت جواهره على وجه يستحسن. ( تذكرة): مفعول لأجله فهو بيان للسبب الحامل له على نظمه أي نظمته لأجل أن يتذكر به العالم مثله ما ذهل عنه ونسيه. يريد: وتبصرة لمن لم يتقدم له علم بما فيه من الصغار والكبار فهو كقول ابن بري: يكون للمبتدئين تبصره *** وللشيوخ المقرئين تذكره وكقول العراقي في ألفيته الحديثية: نظمتها تبصرة للمبتدي *** تذكرة للمنتهى والمسند (وحيث): ظرف زمان يتعلق بقوله سميته والواو داخلة على قوله سميته. وقوله: ( تم) بفتح التاء المثناة فوق أي كمل، وفاعله ضمير يعود على النظم، والجملة في محل جر بإضافة حين إليها، وقوله: (بما) يتعلق بقوله ألم وما واقعة على الأحكام. (به) يتعلق بقوله تعم، وقوله: (البلوى): مبتدأ ومعناه المحنة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) والمراد محنة القضاء لمن ابتلي به. (تعم): خبر المبتدأ والجملة صلة ما والرابط الضمير المجرور بالياء (قد ألم) بفتح الهمزة بمعنى أشعر وهو فعل ماض وفاعله ضمير يعود على النظم والجملة حال من فاعل تم. (سميته) فعل وفاعل ومفعول (بتحفة) يتعلق به (الحكام) مضاف إليه والجملة معطوفة على جملة نظمته والتقدير نظمته تذكرة وسميته حين كمل حاله كونه ملماً أي مشعراً بما البلوى تعم به القضاة بتحفة الحكام. والتحفة: ما يتحف به الرجل من الإحسان واللطف، ويحتمل أن يكون الظرف ضمن معنى الشرط، وقوله: سميته هو جوابه، والتقدير: ولما تم هذا النظم وكمل حال كونه مشعراً بما البلوى تعم به سميته الخ. وهذا الوجه أظهر معنى، وعلى كلا الإعرابين فكلامه صريح في أن التسمية والخطبة تأخرتا عن نظم الكتاب والفراع منه. (في نكت) بالمثناة فوق يتعلق بتحفة وهو جمع نكتة بالتاء المثناة أيضاً وهي التنبيه على ما ينبو عنه النظر ولا يدرك بسرعة (العقود) مضاف إليه جمع عقد، والمراد بها الصكوك والوثائق المكتوب فيها ما انبرم بين المتعاقدين من بيع أو نكاح أو غيرهما. (والأحكام): معطوف على العقود جمع حكم وهو الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام على ما يأتي أول باب القضاء، وهذه التسمية مشعرة بأن للناظم كلاماً على الوثائق وهو كذلك لأن الفقه المذكور في النظم هو الذي بنيت عليه العقود، وبه رسمت الوثائق فمعرفته طريق لمعرفة ما يصح من الوثائق وما يبطل منها، ألا ترى أنه ذكر الرهن مثلاً وأركانه وشروطه، وأنه إذا لم يوجد الركن أو الشرط في وثيقته بطلت ولم ينتفع صاحبها بها فقال: الرهن توثيق بحق المرتهن *** وإن حوى قابل غيبة ضمن إلى أن قال: والحوز من تمامه وإن حصل *** ولو معاراً عند راهن بطل إلى أن قال أيضاً: والشرط أن يكون ما يرتهن *** مما به استيفاء حق يمكن إلى أن قال: وجاز في الرهن اشتراط المنفعه *** إلا في الأشجار فكل منعه وهكذا فعل في غيره من الأبواب فقال في الضمان أيضاً: وإن ضمان الوجه جاء مجملا *** أي في الوثيقة: فالحكم أن المال قد تحملا وأشار إلى شرطه بقوله: وهو من المعروف فالمنع اقتضى *** من أخذه أجراً به أو عوضا يعني: أنه إذا وجد في الوثيقة أنه أخذ به أجراً أو عوضاً فهو باطل، وهكذا فعل الناظم وغيره في سائر أبواب الفقه فالفقه الذي ذكروه عليه تنبني وثائق تلك الأبواب وليس للتوثيق أركان وشروط خارجة عن الفقه الذي ذكروه كما ظنه كثير من جهلة الطلبة، وهذا هو السبب في تعرضنا لغالب وثائق أبواب هذا النظم ليعلم الواقف عليها أن مدار الوثائق كلها على الفقه، ويعلم أن بعض ألفاظها إنما يذكر لزيادة البيان كما ستراه إن شاء الله، أو للاحتياط والخروج من الخلاف كقوله في الهبة: وحيث جاز الاعتصار يذكر *** وضمن الوفاق في الحضور إن كان الاعتصار من كبير *** وكقوله في الضمان: ولا اعتبار برضا من ضمنا. الخ فرضاه لا يشترط في صحة الضمان، ولكن لذكره فائدة كما يأتي إن شاء الله، وكذا إنزال البائع المشتري فيما اشتراه من الأصول أي إقباضه إياه كما يأتي في وثيقة البيع صدر البيوع وعند قوله في الاستحقاق: وناب عن حيازة الشهود. الخ. (وذاك) النظم والتسمية كانا (لما) حين خبر كان المحذوفة كما قررنا وكان مع خبرها خبر اسم الإشارة (أن) زائدة للتوكيد وزيادتها بعد لما مطردة كقوله تعالى: {ولما أن جاء البشير} (يوسف: 96) وقوله: ولما أن جاءت رسلنا} (العنكبوت: 33) ويجوز أن تكون مصدرية تسبك هي وما بعدها بمصدر على مذهب الفارسي الآتي. (بليت) بضم الباء وكسر اللام مبني للمفعول والجملة في محل جر بإضافة لما الحينية إليها (بالقضا) ء يتعلق به على حذف مضاف أي بخطة القضاء. والقضاء: الحكم أي الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام كما مر. (بعد) ظرف يتعلق ببليت أيضاً (شباب) مضاف إليه، والشباب عبارة عن كمال القوة بعد البلوغ إلى الأربعين وما بعد ذلك كهولة (مر): فعل ماض وفاعله ضمير الشباب، والجملة نعت لشباب (عني) يتعلق به (وانقضى) معطوف على مر، والتقدير وذاك النظم والتسمية كانا حين بليت بخطة القضاء بعد مرور شبابي وانقضائه، وهذا على مذهب الفارسي وابن جني ومن تبعهما من أن لما في مثل هذا التركيب بمعنى حين، وأما على مذهب سيبويه فهي حرف وجود لوجود، فإذا قلت: لما جاء زيد جاء عمرو فلما عند سيبويه حرف وجود لوجود أي فوجود مجيء زيد لوجود مجيء عمرو أكان مجيئهما في زمن واحد أم لا. وعند الفارسي حين جاء زيد جاء عمرو فيقتضي مجيء كل منهما في زمن واحد وهو غير لازم عند سيبويه والجمهور، وعليه فاسم الإشارة في النظم فاعل كان محذوفة وهو المفسر لجواب لما وهي حرف وجود لوجود والتقدير، ولما بليت بالقضاء بعد مرور شبابي وانقضائه كان ذلك النظم والتسمية، وكانت ولايته بخطة القضاء بمدينة وادآش في صفر عام عشرين وثمانمائة، ثُمَّ نقل عنها إلى قضاء الجماعة بحضرة غرناطة في العاشر لذي القعدة من أربعة وعشرين قاله ولده، ولا شك في ذهاب الشباب عنه لبلوغه الستين على ما مر في تاريخ ولادته رحم الله الجميع بفضله وكرمه. (وإنني أسأل) أي أطلب بذلة وخضوع لأن السؤال من الأدنى إلى الأعلى دعاء وعكسه أمر ومن المساوى التماس، وقال بعض السؤال والدعاء مترادفان ولا فرق بينهما وبين الأمر والالتماس من جهة الصيغة التي تدل على طلب الفعل، وإنما يحصل الفرق بالمقارنة فإن قارنه الاستعلاء فهو أمر، وإن قارنه التساوي فهو التماس، وإن قارنه الخضوع فهو سؤال (من رب) يتعلق بأسأل من التربية وهي نقل الشيء من أمر إلى أمر حتى يصل إلى غاية أرادها المربي، ثُمَّ نقل إلى المالك والمصلح للزوم التربية لهما غالباً قاله السنوسي (قضى) أي قدر وحكم في أزله (به) أي بالقضاء أي بخطته (على) يتعلق هو وما قبله بقضى والجملة صفة لرب (الرفق) مفعول بأسأل (منه في القضا) يتعلقان بالرفق، ومعناه اللطف ولطف الله بعبده إيصال مراده إليه بلطف، وفسر الجوهري والقاموس اللطف بالتوفيق. والتوفيق: خلق القدرة على الطاعة. وقال المتكلمون: اللطف ما يقع به صلاح المكلف عنده بالطاعة والإيمان دون فساده بالكفر والعصيان وعلى هذا فالرفق واللطف والتوفيق ألفاظ مترادفة، فالناظم رحمه الله طلب من ربه تعالى الذي قدر وحكم عليه بهذه الخطة في أزله أن يرفق به فيها رفقاً لائقاً به جل جلاله من توفيقه للعمل بالطاعة، وخلق القدرة عليها وعدم الوقوع في المعصية وخلق القدرة على تركها وإتحافه بالنعم واللطف به في أحواله كلها. وهذا التعميم مستفاد من أل الاستغراقية. (والحمل) أي وأسأله قوة الحمل لأثقال ما كلفته من هذه الخطة (والتوفيق) تقدم أنه بمعنى الرفق واللطف وهو وما قبله معطوفان على الرفق (أن) بفتح الهمزة على حذف الجاري أي إلى أن (أكون من أمة) أي جماعة من صفتهم قال فيهم جل جلاله: وممن خلقنا أمة يهدون (بالحق) وبه (يعدلون} (الآعراف: 181). (حتى) بمعنى إلى وهي معطوفة بحذف العاطف على أن و(أُرى) بضم الهمزة مبنياً للمفعول منصوباً بأن مضمرة بعدها والتقدير أسأله الرفق والحمل والتوفيق إلى أن أكون وإلى أن أرى (من مفرد الثلاثة) الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام حسبما رواه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة. رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار) (وجنة) بفتح الجيم مبتدأ (الفردوس) مضاف إليه (لي) يتعلق بالخبر الذي هو (وراثة) والجملة حال من نائب أري والجنة الحديقة ذات النخل والشجر قاله في القاموس، والفردوس عند العرب البستان الذي فيه الكرم قاله الفراء. وقال ابن عطية: الفردوس مدينة الجنة وهي جنة الأعناب، واللفظة فيما قال مجاهد رومية عربت، والعرب تقول للكروم فراديس اه. ومعنى كونها وراثة له أن يكون من أهلها كما قال تعالى: {الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (المؤمنون: 11) ويروى: أن الجنة مائة درجة أعلاها وأوسطها الفردوس منها تفجر الأنهار وعليها العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس لا أحرمنا الله وجميع المسلمين منها آمين. من أركانه وشروطه وجائزاته ومستحباته وغير ذلك. وهو لغة كما قال أبو منصور الأزهري على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه اه. القسطلاني فيرد بمعنى الأمر منه. وقضى ربك والعلم منه قضيت لك بكذا أعلمتك، به والإتمام منه فإذا قضيتم الصلاة} (النساء: 103)، والفعل منه فاقض ما أنت قاض، والإرادة منه فإذا قضى أمراً، والموت منه ليقض علينا ربك، والكتابة منه وكان أمراً مقضياً، والفصل منه، وقضى بينهم بالحق، والخلق منه، فقضاهن سبع سموات اه وقال الجوهري: القضاء الحكم وفي التبصرة معنى قولهم قضى القاضي أي ألزم الحق أهله قال تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} (سبأ: 14) أي ألزمناه إياه. وأصل مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة} (ص: 26) الآية. وقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} (النساء: 10) وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة: 49) ومن السنة ما خرجه الترمذي وأبو داود عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاضياً إلى اليمن. وفي الموطأ أنه عليه السلام قال: (إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع) الحديث. ثُمَّ إنه من العقود الجائزة فلكل منهما الفسخ شرع أم لا كما يفهم من عجز البيت الآتي. فمن شبهه بالجعل والقراض مراده في مطلق الجواز لأنهما يلزمان بالشروع بخلافه هو، وهو من فروض الكفاية حيث تعدد من فيه أهليته وإلاَّ تعين حينئذ ولزم المتعين أو الخائف فتنة إن لم يتول أو ضياع الحق القبول والطلب، وأجبر عليه وأن يضرب وإلا فله الهرب الخ، وإنما كان فرضاً لأن الإنسان لا يستقل بأمر دنياه فيكون طحاناً خبازاً جزاراً حراثاً مثلاً، وبالضرورة يحصل التشاجر والخصام فاحتيج إلى من يقطع ذلك ولكون القطع المذكور يحصل بواحد أو جماعة كان كفاية ولعظم خطره جاز له الهرب مع عدم الخوف وضياع الحق أي ولا يتعين عليه بتعيين الإمام بخلاف غيره من فروض الكفاية (خ) في الجهاد: وتعين بتعيين الإمام. وعرفاً قال ابن عرفة: صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين فتخرج ولاية الشرطة والتحكيم وأخواتها والولاية العظمى اه. فقوله: ولو بتعديل الخ مبالغة في مقدر أي نفوذ حكمه في كل شيء ولو بتعديل الخ. وبذلك المقدر تدخل التأجيلات ونحوها لأنها أحكام ينبني عليها من بعده وتخرج ولاية الشرطة وأخواتها لأنها خاصة ببعض الأشياء كالحسبة بأحكام السوق، وكذا يخرج بقوله ثبت عندي كذا لأنه ليس بحكم كما يأتي في البيت بعده. قلت: والظاهر أن مفعول قوله توجب محذوف وأن نفوذ على حذف مضاف ومتعلق أي توجب لموصوفها كونه بصدد نفوذ حكمه، فالصفة إن كانت توجب كونه بصدد نفوذ حكمه في كل شيء فمن قامت به قاض وإن كانت توجب كونه بصدد حكمه فيما حكم فيه فقط فمحكم، فالقاضي من ثبتت له تلك الصفة فصل أو لم يفصل، وبه يسقط قول (خ) لم يظهر لي وجه خروجه قال: لأن المحكم ينفذ حكمه بكل شيء حكم به صواباً مثل القاضي، وإنما يفترقان في الجواز ابتداء. وقول (ت) إن التحكيم خارج بعموم الإضافة في حكمه أي جميع أحكامه يرد بأن هذا العموم هو المقدر قبل المبالغة وهو شامل للمحكم المذكور لأنه أيضاً تنفذ جميع أحكامه التي حكمها صواباً (خ) ومضى أن حكم صواباً تأمل. وقوله: حكمية أي اعتبارية. وقوله: نفوذ بالذال المعجمة بمعنى المضي واللزوم لا بمعنى التنفيذ بالفعل لتعذره في الجبابرة. وقوله: حكمه أي إلزامه أي توجب لموصوفها لزوم إلزامه، فاللزوم فرع الإلزام والتنفيذ بالفعل أمر زائد على ذلك وخرج بالشرعي غيره فلا يمضي. وقوله: ولو بتعديل أو تجريح الخ، قال (ت) لم يظهر لي وجه المبالغة عليهما بخصوصهما، فإن قيل: لكونه يستند لعلمه فيهما قيل مثلهما تأديب من أساء عليه وضرب خصم لد الخ. قلت: إنما قصده على أن يبالغ على جنس ما يستند فيه لعلمه، ويكفيه أن يذكر منه بعض أفراده والمبالغة عليه أولى من الحدود لقوة توهمه وقوله: لا في عموم الخ به خرجت الولاية العظمى لأن نظرها أوقع لأن القاضي ليس له قسمة الغنائم ولا تفريق الزكاة ولا ترتيب الجيوش ولا قتال البغاة ولا الإقطاعات. ثُمَّ كما يطلق القضاء في الاصطلاح على الصفة المذكورة، كذلك يطلق على الحكم والفصل فيقال: قضاء القاضي حق أو باطل وتقدم عن الجوهري أنه يطلق على ذلك لغة. قلت: وباعتبار الإطلاق الثاني رسمه القرافي فقال: الحكم إنشاء إلزام أو إطلاق فالإلزام كالحكم بلزوم الصداق أو النفقة أو الشفعة، وقد يكون بعدم الإلزام كالحكم بعدم لزوم ما ذكر، والإطلاق كالحكم بزوال الملك عن أرض زال إحياؤها أو زوال ملك الصائد عن صيد ند الخ، وكذا رسمه ابن رشد باعتبار هذا الإطلاق أيضاً حيث قال: هو الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام أي إنشاء الإخبار فهو مساوٍ لرسم القرافي إلا أن الحكم في كلام ابن رشد لا يفسره بالإلزام بل بالخطاب أي بخطاب شرعي، والخطاب الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف، ثُمَّ تبين لي أنه يصح تفسيره بإلزام أيضاً أي بإلزام شرعي ألزم الشارع به عباده على وجه إلزامه هو للخصمين أو أحدهما وكل من الرسمين غير مطرد لصدقهما بحكمي الصيد وسائر الخطط الشرعية، فلو قالا إنشاء إلزام يوجب نفوذه في كل شيء ولو بتعديل الخ لسلما من ذلك، والضمير في قولنا يوجب يعود على الإنشاء وفي قولنا نفوذه يعود على الإلزام. ثُمَّ إنه على الإطلاق الثاني تعرض له الأحكام الخمسة ولا إشكال. وكذا على الأول لأن قوله نفوذ حكمه معناه كما مرّ لزوم إلزامه وإلزامه يعرض له ما ذكر وبه يسقط قول من قال: إنما تعرض له باعتبار القبول والطلب لأن القضاء صفة ولا شيء من الصفات بمعروض للأحكام المذكورة، ثُمَّ إن المصنف اكتفى بتعريف القاضي عن تعريف القضاء المبوب له فقال:
|